• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف تقول.. شكراً؟

خليل حنا تادرس

كيف تقول.. شكراً؟
   إن العطاء أكثر سعادة من الأخذ وأسهل في كثير من الأحيان.

 

كيف تقول شكراً؟

من المفروض أنّ العطاء عمل رفيع من أعمال الخير الإنسانية، وهو حقاً كذلك، ولكننا غالباً ما ننسى أنّ تقديم الهدية يتطلب طرفين، من يعطي ومن يأخذ..

حدث يوماً أو طُرِدَت فجأة سيدة كانت معنا في العمل بسبب موقف معقد في المكتب لا دخل لها فيه، كما كانت لديها مشكلات خاصة أيضاً، فقد كانت أختها مريضة جدّاً، وكانت غارقة في الديون، وقد عرفت ذلك من سماعي صدفة محادثتها الهاتفية.

وبعد أن ذهبت بعدة أيّام، أنفقت مبلغاً كبيراً بالنسبة لي في ذلك الحين لأرسل لها بعض الزهور، فاتصلت بي هاتفياً وقالت لي: إنك لا تعرف ماذا فعلت، فعندما رأيت العامل وهو يحمل ذلك الصندوق انفجرت باكية، فقد كان ذلك هو الشعاع الأوّل من الضوء في أسابيع طويلة مظلمة، إنّ عندي موعداً لمقابلة مع صاحب عمل غداً، ولأوّل مرة أشعر أنني سأحصل حقاً على الوظيفة.

لقد كان قبولها هديتي دون كلمة احتجاج يشوبها الارتباك ودون أن تقول أنّه كان ينبغي ألا أفعل ذلك سبباً في ابتهاجي حتى أنني تعلمت درساً مهما: وهو أنّ القبول إذا كان بسيطاً، غير معقد هو أجمل شيء يمكن أن تفعله للمعطي، سواء كان ما يقدمه هدية أو ضيافة أو توصية أو خدمة أو تكريماً؛ خذها بلطف فهذه هي أحسن طريقة تقول بها: أشكرك.

وأن تعطي أسهل كثيراً من أن تتلقى بلطف، وإذا كنت تشك في ذلك، فانظر كيف تتلقى الثناء.

حضرتُ ذات مرة حفلة صغيرة لمقابلة خطيبة فرنسية لأحد الأصدقاء ومع أنّ الفتاة لم تكن تعرف شيئاً من العربية تقريباً، فإنّه كان من الواضح أنها كانت مهتمة بنا جميعاً، وكانت جميلة إلى حد أننا التففنا حولها وأخذنا نكيل لها من الثناء ما لو كانت قد فهمته لاحمرت أذناها خجلاً؛ وأخيراً لمست ذراع خطيبها وسألته: ماذا نقول؟

فابتسم وأخبرها، ولا أعرف ماذا قال لها بالضبط، ولكنها نظرت إلينا ثمّ أومأت برأسها في انحناءة صغيرة، وقالت بالعربية: أشكركم.

وكان تأثير ذلك عظيماً، وشعرنا جميعاً بالترحيب على الرغم من أنّ كلّ ما فعلته هو أنّها قبلت ثناءنا.

وإذا كانت اليد المغلقة لا تستطيع أن تتلقى؛ فإنّ الذهن المغلق لا يستطيع كذلك أن يتلقى.

وقد حدث أن أعطت سيدة تشغل مركزاً مرموقاً في شركة سينمائية سكرتيرتها شيكاً بمناسبة عيد الميلاد، واعتذرت لها بأنها تفعل ذلك لأنّها لم تستطع أن تختار لها هدية مناسبة، ولم يعد هناك وقت للشراء.

فابتسمت السكرتيرة وقالت: أوه إنك لا تعلمين كم أراحني ذلك، فأنا في نفس الموقف بالضبط، إذ كنت في حيرة أتساءل كيف أقدم لك هذا، ثمّ سلمت رئيستها شيكاً بمبلغ أقل كثيراً من المبلغ الذي تلقته.

واستاءت السيدة على الفور، وبدأت في إلقاء خطبة طويلة عما تستطيع السكرتيرة أن تقدمه، وكيف أنها كانت تستطيع أن تخصم مبلغ الشيك الذي قدمته السكرتيرة من شيكها هي إذا كان ذلك هو ما تهدف إليه، إلى غير ذلك؛ وأنصتت السكرتيرة في هدوء ثمّ قالت: إنك رئيسة ممتازة وقد تعلمت منك (90%) مما أعرفه.. ولكن هناك شيئاً واحداً أستطيع أنّ أعلمك إياه وهو: تعلمي كيف تتقبلين، فهذه الطريقة أكثر متعة للجميع.

وذهلت السيدة ثمّ قالت أخيراً: إنّك على حقّ، هل يمكنني أن آخذ هذا الشيك؟ هناك جوارب غالية سأشتريها وأشكرك كثيراً.

والقبول الفوري للشيء الذي يُعطى أو يُقدم، ولو كان ذلك منافياً لعادة راسخة؛ يمكن أن يكون مقياساً للأدب الحقيقي. كنت يوماً في زيارة لأحد استوديوهات التليفزيون، حيث كان أحد الشخصيات الهامة سيظهر في برنامج؛ ووصل هذا الرجل متأخراً، واندفع إلى غرفة المراقبة ليتحدث حديثاً قصيراً عاجلاً مع المخرج، وكانت الغرفة الصغيرة مزدحمة، ولم تكن هناك كراسي خالية، وكنت أنا الغريب الوحيد الموجود؛ ولكني كنت زائراً خارجياً فناقشت نفسي محاولاً أن أتصور السلوك المناسب، ثمّ وقفت، وقدمت مقعدي إلى هذه الشخصية.

فرمقني بنظرة سريعة، ثمّ أخذ المقعد، وما أن تلقى تعليماته وانصرف المخرج، حتى قام مرة أخرى وأفسح لي مكاناً للجلوس، وفي الدقائق القليلة الباقية على الإذاعة، أخذ يتحدث معي ثمّ انحنى مودعاً، ولم يذكر شيئاً عن تنازلي عن مقعدي له، ولم يكن في حاجة إلى ذلك.

إنني أرجو أن أتعلم كيف أقبل ما يمنحني الناس إياه فاجعله يزيد حياتي وحياتهم غنى؛ ومنذ أيام اتصلت بي إحدى الصديقات هاتفياً من مسافة بعيدة وهي سيدة صغيرة ليس لديها مال كثير تبعثره.. وذلك لمجرد أن تقول لي إنها مشتاقة لرؤيتي. وقد جاءت مكالمتها في الوقت الذي كنت في حاجة فيه إلى تشجيع، وعندما انتهت الدقائق الثلاث، كان هناك حافز يدفعني لأن أقول لعاملة التليفون: أضيفي الأجر على حسابي ودعينا نتحدث.

ولكني تحكمت في نفسي في الوقت المناسب، ولا لها من طريقة أتلقى بها الهدية؛ لكأنني أقول لها: إنني أستطيع أن أدفع وأنتِ لا تستطيعين.

ولكنني بدلاً من ذلك قلت: وداعاً، وأرسلت إليها رسالة بالبريد أحدثها فيها عن مدى سعادتي بمكالمتها.

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ ستون طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top